رسائل إلى قارئ يافع | ترجمة

من كتاب «تسارع الوجود»

 

المصدر: مقدّمة كتاب «تسارع الوجود».

ترجمة: سليمان زوقاري.

 

لمّا سُئِلَ دافيد بووي[1] حول فكرته عن السعادة المثاليّة في إطار استبيان شهير[2] أعدّه الكاتب الفرنسيّ الكبير مارسيل بروست[3]، أجاب ببساطة: "إنّها القراءة".

ترعرعتُ في بلغاريا الشيوعيّة، كان أبي مهندسًا وأمّي مكتبيّة اضطرّت إلى العمل في مجال برمجيّات الحاسوب. لا أذكر أنّي بدأت المطالعة مبكّرًا، ممّا جعل ذلك، حرفيًّا، دَيْنًا سأمضي ما تبقّى من حياتي من أجل تسديده. كانت قراءة جدّتي القصص على مسمعي من أسعد ذكرياتي. أذكر قراءتها لقصّة «مغامرات أليس في بيت العجائب»[4] قبل أن يكون باستطاعتي إدراك النبوغ المجازيّ، الّذي يتخلّل الحكاية الّتي خطّها عالم منطق ألمعيّ.

كانت جدّتي مهندسة أيضًا، ولا تزال تحتفظ بمكتبة عظيمة من الأدب الكلاسيكيّ، وروايات القرن العشرين، والموسوعات، والأطالس العديدة والمتنوّعة الّتي كانت المفضّلة لديّ عندما كنت طفلة. لم تخبرني بقصّة والدها قبل أن أبلغ سنّ الرشد، وعندئذٍ أدركت دور الكتب في حياتها؛ إذ لم تكن مجرّد ديكور فكريّ بل قوّة حياة نابضة لا تقلّ قيمة عن اللحم والدواء والطيران والورود، على قول الشاعرة غويندولين بروكس[5].

 

 

لقد كان والد جدّتي عالم فلك ورياضيّات في آن، تعلّم اللغة الإنجليزيّة عصاميًّا تحت وطأة الديكتاتوريّة في بلغاريا الشيوعيّة، عبر قرصنة تردّد راديو إذاعة «بي بي سي» الدوليّة، وقراءة نسخ مهرّبة من «الحارس في حقل الشوفان»[6] و«نساء صغيرات»[7] و«عناقيد الغضب»[8]، ومن روايات كثيرة أخرى لديكنز وهيمنغواي. كان ذاك المتمرّد في منتصف العمر يسطّر الكلمات بالحبر الأحمر، ثمّ يكتب ترجمتها البلغاريّة أو مرادفاتها الإنجليزيّة على الهامش، إلى أن صار لسانه طليقًا في سنّ الخمسين. ولمّا وُضِعَ أحفاده تحت رعايته، أصرّ على تمرير إرث التمرّد ذاته إليهم؛ عبر تعليمهم اللغة الإنجليزيّة. خلال جولاتهم في الحديقة بعد الظهر، اعتاد ألّا يقدّم لهم شطائرهم عندما يشعرون بالجوع قبل أن يطلبوا منه ذلك، بإنجليزيّة ملكيّة صحيحة.

لم ألتق والد جدّتي قطّ؛ فقد وافاه الأجل قبل ولادتي، ولكنّي أحببته من خلال ذكريات جدّتي. تقريبًا في نفس الوقت الّذي بدأت فيه تسليتي بتلك القصص، ودون علم منّي آنذاك، شرعت امرأة أمريكيّة شابّة تُدْعى كلاوديا – خرّيجة فلسفة في المدرسة الجديدة للأبحاث الاجتماعيّة التابعة لـ «كلّيّة الدراسات العليا» بنيويورك – في ارتياد المكتبات والجامعات، متنقّلة عبر دول أوروبّا الشرقيّة والوسطى، إثر انتفاعها بمنح مؤسّسات عديدة بصفتها ممثّلة برنامج «كلّيّة الدراسات العليا»، الّذي وُضِعَ لدعم المكتبات والباحثين في تلك المنطقة، إثر ما يقارب نصف قرن من العزلة الفكريّة. زارت المكتبات لتتحدّث عن العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّات، ولكي تتعلّم كيفيّة جمع المصنّفات على الصعيد المحلّيّ، فالتقت بمكتبيّين وأمناء مكتبات أروها كتبًا مصوّرة بديعة، ومخطوطات قيّمة، وكتبًا تاريخيّة، ومحفوظات نادرة من الصحف القديمة. إثر ذلك، بدأت البحث عن الكتب المصوّرة في متاجر الكتب المحلّيّة، وربّما كانت من بينها الكتب الّتي كانت جدّتي تقرؤها لي في ذلك الوقت. أصبحت تلك المرأة الشابّة بعد سنوات ناشرة مستقلّة لكتب أطفال خياليّة جميلة وفريدة من نوعها، تلك الكتب الّتي سأستمتع بها خلال حياتي الراشدة بعد أن اقتلعت نفسي من بلغاريا وزرعتها في بروكلين، ويعود الفضل الأكبر في ذلك إلى القراءة.

وهكذا، وصل في يوم من الأيّام طرد يحتوي على ثلاثة كتب بديعة تعوزها الكلمات لفنّان فرنسيّ، إلى صندوق بريدي في بروكلين – لم تكن كتبًا ’موجّهة للأطفال‘، بل كانت تتضمّن أعمالًا فنّيّة بصريّة فلسفيّة، تصوّر قصصًا حسّاسة وعميقة عن الحبّ والفقدان والوحدة والتكفير عن الذنب. بحثتُ مسحورة عن المرسل، ودهشتُ لمعرفة أنّ عنوانه ليس إلّا المبنى المجاور لمسكني. دوّن على الطرد: "كتب الأسد المفتون"[9]. هذا رائع، قلت في نفسي. كانت المرسلة كلاوديا زوي بيدريك[10] تلك الناشرة عينها. يبدو أنّنا كنّا نزاول أعمالنا في أستوديوهين متجاورين في الحيّ السكنيّ ذاته في بروكلين. وهكذا التقيت بكلاوديا بعد أن طفنا حول بعضنا عبثًا في مدارات مختلفة حول شمس القصص والصور.

 

 

لقد كان فجر صداقتنا السريعة نقطة مميّزة في تاريخ الثقافة؛ فقد شهدنا وقتذاك إرهاصات الكتاب الإلكترونيّ والعصر الذهبيّ لوسائل التواصل الاجتماعيّ، حيث أصبحت القراءة في حدّ ذاتها – أي لحظة الاستسلام الفكريّ والحسّيّ والروحيّ لنسيج متماسك، حاكه إنسان آخر؛ ممّا يجعل عالمك الداخليّ يخضع لتحوّل سيمفونيّ – أصبحت ممزّقة جرّاء تقديس شذرات الشبكة العنكبوتيّة. حتّى نحن الّذين أقبلنا على هذا الوسيط بصدق وتفاؤل صرنا وقتها نحسّ بقشعريرة؛ جرّاء ظلّه المخيّم شيئًا فشيئًا على الأرجاء.

وجدت نفسي مجدّدًا ممزّقة بين عالمين – وليس بين أيديولوجيّتين متباينتين بوضوح صارخ؛ أي الشيوعيّة البلغاريّة والرأسماليّة الأمريكيّة - بل مشتّتة بين نموذجين قائمين بذاتهما. وفّقتُ بينهما توفيقًا ذاتيًّا وشخصيًّا بالتأكيد، وذلك بتمضية أيّامي في قراءة الكتب الّتي كان أغلبها مجلّدات ذات عظمة خالدة، دوّنها قديمًا أشخاص وافاهم الأجل أو ظلّوا في طيّ النسيان، ومن ثَمّ بدأت أكتب عنها على شبكة الإنترنت الّتي أصبحت أتعامل معها، مثل هامش كبير أدوّن عليه ملاحظاتي وشروحي حول قراءاتي وأفكاري، ورحلتي في البحث عن المعنى.

ورغم أنّي كنت دائمًا مرتابة من فكرة وسيط القراءة – أرفض الإيمان بأنّ قراءة أرسطو على لوحة رقميّة، أو الاستماع إلى سوزان سونتاغ في كتاب صوتيّ، أقلّ قيمة بالضرورة من القراءة من كتاب ورقيّ – فإنّي بدأت أشعر بالقلق مثل كلاوديا بكيفيّة تمثّل القراءة في حدّ ذاتها من قِبَل الأجيال القادمة، بصفتها علاقة بين المرء وعقله، لا بوصفها علاقة بينه وبين موادّ من السيليكون أو الخشب المفتّت.

وجدتُ السلوى في المقال البديع «سحر الكتاب»، الّذي كتبه هيرمان هيسه[11] عام 1930، وقال فيه الكاتب الحائز على جائزة «نوبل» بأنّ القراءة ستظلّ حاجة بشريّة أساسيّة، مهما شهد العالم من تطوّرات تكنولوجيّة. كتب هيسه قبل ظهور الإنترنت كما نعرفها في أيّامنا هذه: "علينا ألّا نخشى التخلّي عن الكتب في المستقبل. على عكس ذلك، فكلّما استُجيب لبعض حاجيات الترفيه والتعليم من خلال ابتكارات أخرى، استعاد الكتاب كرامته وسلطته الاعتباريّة". وبناء على حماستنا المشتركة دفاعًا عن كرامة الكلمة المكتوبة وسلطتها الاعتباريّة، قرّرت أنا وكلاوديا أن نقوم بشيء ما حيال ذلك، نعتبره دومًا بطبيعة الحال الشكل الوحيد المقبول من بين أشكال الشكوى – ليس عبر الهوس بالخوف أو التلويح بعصا الإجبار الواعظة – بل بالبرهنة على أنّ حياة القراءة أكثر ثراء ونبلًا ورحابة ووميضًا، بما أمكننا من الوضوح والشغف.

 

 

وأيّ طريقة أفضل من القيام بذلك عبر دعوة الأشخاص الّذين نثمّن عيشهم لمثل هذه الحيوات – مشاهير من الفنّانين والكتّاب والعلماء والأبطال في الأوساط الثقافيّة بمختلف مشاربهم – لمشاركة حكاياتهم ومشاعرهم، حول كيفيّة مساهمة القراءة في تشكيل شخصيّاتهم؟ ففي النهاية، نحن نقرأ ما نحن عليه بقدر ما نحن لسنا مختلفين عمّا نقرؤه.

إذن، شرعنا في مغامرة دامت ثماني سنوات، تمثّلت في التواصل مع الأشخاص الّذين نكنّ لهم حبًّا وإعجابًا كبيرين، داعيتين كلًّا منهم إلى كتابة رسالة قصيرة لقرّاء اليوم والغد من اليافعين، يتحدّثون فيها عن مساهمة القراءة في نحت شخصيّاتهم ومصائرهم، ثمّ أرسلنا لاحقًا كلّ رسالة إلى مصوّر، أو فنّان تشكيليّ، أو مصمّم جرافيك؛ لبثّ الحياة فيها بصريًّا.

قرّرنا أن نتبرّع بمداخيل المشروع إلى الفرع المحلّيّ لمنظومة «المكتبة الوطنيّة العموميّة» في ولاية نيويورك؛ لأنّ المكتبات حصون الديمقراطيّة وأكسجين حياة العقل الّذي يعتبر، مثلما اعتقد والد جدّتي من قبل، حاجز المقاومة الأكثر شراسة لدينا ضدّ الحيف والظلم.

وأنا أسترجع هذا العناء المكلّل بالحبّ، أعرب عن امتلائي بالسعادة والامتنان على كلّ الرسائل المئة والإحدى والعشرين الشاعريّة والمرحة والشديدة الحميميّة في آن، الّتي تلقّيناها من العديد من المشاركين من العلماء، مثل جاين غودال وجانا ليفين والموسيقيّين مثل يو- يوما وأماندا بالمر، والكتّاب مثل جاكلين وودسون ونايل غايمان، والفنّانين مثل مارينا أبراموفيتش وكريس وار، مرورًا بالفلاسفة والملحّنين والشعراء وعلماء الفيزياء الفلكيّة والممثّلين، وناجية من محرقة الهولوكوست تبلغ من العمر 98 سنة، وأوّل رائدة فضاء إيطاليّة، والعديد من الأشخاص المميّزين الآخرين الّذين لا يمكن عظمة فكرهم أن تحدّها الأوصاف العرجاء، الّتي نستعملها غالبًا لتكثيف شخصيّة أحدهم ومساهمته الثقافيّة.

 

 

من المذكّرات المصغّرة وأفكار القرّاء الدائمين الّذين جعلوا من القراءة حيوات رائعة لأنفسهم، تنبثق موسوعة متكوّنة من شخصيّات عديدة، وأطلس يمكّننا من وضع خارطة للأرض من خلال كوكب الأدب.

 


 

[1] دافيد بووي (1947 – 2016) مغنٍّ ومؤلّف أغانٍ وملحّن وممثّل بريطانيّ. اعْتُبِرَ هذا الفنّان الكبير من أكثر الفنّانين تأثيرًا في القرن العشرين.

[2] في ثمانينات القرن العشرين، حصل مارسيل بروست، الشابّ المراهق، على استبيان باللغة الإنجليزيّة من قِبَل صديقته أنطوانيت ابنة، الرئيس الفرنسيّ فيليكس فور. تمثّل الاستبيان في لعبة تحليل الشخصيّة الّتي كانت دارجة في العصر الفيكتوريّ في بريطانيا. كان غرض اللعبة اكتشاف ميول المشارك ومصادر إلهامه وذوقه الفنّيّ. اكتشف هذا الاستبيان بخطّ يد بروست أخو أنطوانيت، واستخدمه لاحقًا الإعلاميّ الفرنسيّ برنار بيفو؛ لكي يطرح أسئلته على ضيوفه في نهاية برنامجه الأدبيّ «فواصل»، ليعتمده لاحقًا الإعلاميّ الأمريكيّ جايمس ليبتون في برنامجه «داخل أستوديو الممثّلين». اعتمدتْ الاستبيان عينه مجلّة «فانيتي فير» الّتي كان دافيد بووي أحد مستجوبيها عام 1998.

[3] مارسيل بروست (1871 – 1922) روائيّ وناقد وكاتب مقالات فكريّة، فرنسيّ شهير، وهو صاحب الرواية العظيمة «البحث عن الزمن المفقود». يعتبره النقّاد والكتّاب من أكثر الروائيّين تأثيرًا في القرن العشرين.

[4] رواية عجائبيّة شهيرة نُشِرَتْ عام 1865 للويس كارول (الاسم المستعار للروائيّ البريطانيّ شارل دودغسون).

[5] شاعرة وكاتبة أمريكيّة (1917 – 2000). كانت الأفريقيّة الأمريكيّة الأولى الّتي حازت «جائزة بوليتزر» المرموقة عام 1950، عن ديوانها الشعريّ «آني آلن».

[6] رواية للكاتب الأمريكيّ جيروم ديفيد سالينجر، صدرت عام 1951.

[7] واية للمؤلّفة الأمريكيّة لويزا ماي ألكوت، نُشِرَت في جزأين عامَي 1868 و1869.

[8] رواية شهيرة للكاتب الأمريكيّ جون ستاينبيك، كتبها عام 1939، وفاز عنها بـ «جائزة بوليتزر» عام 1940.

[9] دار نشر أمريكيّة مستقلّة مختصّة في القصص المصوّرة وكتب الأطفال - «كتب الأسد المفتون – Enchanted Lion Books ».

[10] كلاوديا زوي بيدريك ناشرة ومحرّرة والمديرة الفنّيّة لدار النشر المستقلّة «كتب الأسد المفتون – Enchanted Lion Books ».

[11] هيرمان هيسه (1877 – 1962) كاتب سويسريّ من أصل ألمانيّ، عُرِفَ بالعديد من الأعمال أشهرها «ذئب السهوب» و«سدهارتا» و«ساعة بعد منتصف الليل» و«دميان». حاز على جائزة «نوبل» للآداب عام 1946 "لجملة أعماله الملهمة، الّتي وإن تميّزت بالجرأة والنفاذ إلى العمق، فإنّها تقدّم أفضل مثال عن المثل الإنسانيّة الكلاسيكيّة، وأسمى السمات الأسلوبيّة".

 


 

سليمان زوقاري

 

 

مترجم تونسيّ، ترجم نصوصًا للعديد من الكتّاب العالميّين، من بينهم البريطانيّ جورج أورويل، والأميركيّ دافيد فوستر والاس، والسويديّ هيننغ مانكل، وغيرهم. إلى جانب ترجمة قصائد وأغاني لكتّاب وشعراء ومغنّين عربًا وعالميّين.